کد مطلب:370257 یکشنبه 20 خرداد 1397 آمار بازدید:511

الفصل الثالث من المناظرات.. والإحتجاجات












الصفحة 262












الصفحة 263


بدایة:


قد قدمنا فی الفصل السابق وفی غیره، نبذاً من الاحتجاجات المختلفة فیما بین علی أمیر المؤمنیین (علیه السلام)، وأصحابه من جهة، وبین «الخوارج» من جهة أخرى.. ونلفت نظر القارئ إلى ما رواه ابن شداد لعائشة فیما ذكرناه فی الفصل السابق، على وجه الخصوص..


ونذكر فی هذا الفصل نبذة من هذه الاحتجاجات والمناظرات، ولا نسعى إلى استقصاء نصوصها، فإن الكتاب لیس معداً لذلك..


فنقول:


المناظرات والاحتجاجات:


لقد نفذ علی (علیه السلام) سیاسات الإسلام فی «الخوارج» بدقة، حیث ترك الساكتین منهم، فلم یهجهم.


وبالغ فی الاحتجاج على الذین أعلنوا بالخصام، وبادروا إلى الانفصال وإظهار التمرد..


وقد بین لهم بما لا مدفع له خطأهم فی تصوراتهم، وبغیهم فی مواقفهم، ولم یقتصر الأمر على ما احتج به هو نفسه (علیه السلام) علیهم












الصفحة 264


فی أكثر من موقف ومناسبة، بل احتج علیهم أیضاً أبو أیوب الأنصاری، وابن عباس، وصعصعة بن صوحان، الذی أصبحت خطبه فیهم مضرب مثل، فیقال: «أخطب من صعصعة بن صوحان إذا تكلمت الخوارج»(1).


لا تخاصمهم بالقرآن:


إن أول ما یلفت نظرنا هنا هو: أنه (علیه الصلاة والسلام) یوصی ابن عباس، حینما أرسله إلى «الخوارج» لیحاورهم، ویقیم الحجة علیهم ـ یوصیه ـ بأن: لا یخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال ذو وجوه، بل علیه أن یخاصمهم بالسنة، فإنهم لن یجدوا عنها محیصاً(2).


وفی نص آخر: «أن علی بن أبی طالب أرسل عبد الله بن عباس، إلى أقوام خرجوا، فقال له: إن خاصموك بالقرآن، فخاصمهم بالسنة»(3).


هذا.. ومن المضحك المبكی هنا: أننا نجدهم قد نسبوا هذه الكلمة بالذات إلى أعداء أمیر المؤمنین (علیه الصلاة والسلام)، قال الزمخشری: «إن الزبیر رضی الله عنه قال لابنه: لاتخاصم «الخوارج» بالقرآن، خاصمهم بالسنة.


قال ابن الزبیر: فخاصمتهم بها، فكأنهم صبیان یحرثون سخبهم»(4).


____________



(1) البیان والتبیین ج1 ص326 و327 وذكر المعتزلی فی شرح النهج ج3 ص 398 نفس القصة مع بعض الاختلاف. فراجع..


(2) نهج البلاغة، بشرح الشیخ محمد عبده، قسم الوصایا والكتب، رقم 77 والنهایة لابن الأثیر ج1 ص444 ومصادر نهج البلاغة ج3 ص 478 عنه، وربیع الأبرار ج1 ص 691، والبحار ط قدیم ج8 ص 560.


(3) كنز العمال ج1 ص 307 عن أصول السنة، لابن أبی زمنین وراجع العقود الفضیة ص 60 عن الإتقان للسیوطی.


(4) الفائق ج3 ص 360 ونسب قریش لمصعب الزبیری ص 103 وبهج الصباغة ج7 ص 179 والقصة فیهما مفصلة.













الصفحة 265


وكم لهم من غارات مشنونة، وتعدیات محمومة ومجنونة على فضائله وكراماته، وعلى مواقفه، وأقواله، وكلماته، صلوات الله وسلامه علیه، فإن الزبیر قد قتل قبل ظهور «الخوارج» بزمان طویل، وإنما بدأ ظهورهم فی قصة التحكیم فی صفین.


ومهما یكن من أمر.. فإن سرّ أمره (علیه الصلاة والسلام) ابن عباس بأن لا یخاصمهم بالقرآن، بل بالسنة هو أنه (علیه السلام) كان یدرك ویعرف أكثر من كل أحد، ما كانوا علیه من السطحیة فی الفهم، والسذاجة فی التفكیر، حسبما ستأتی الاشارة إلیه..


والقرآن.. هو ذلك الكتاب الذی شاءت الإرادة الإلهیة أن یحوی من المعارف، والدقائق والعلوم ما یكفی البشریة جمعاء، ولتجد الأمم فیه ضالتها المنشودة، وآمالها المعقودة على مدى القرون والأزمان.


فكان لابد للألفاظ القرآنیة أن تتحمل كل هاتیكم المعانی، بمختلف وجوه وأنحاء التحمل الممكنة..


وقد أوضحنا هذا الأمر، فی بحث لنا حول إعجاز القرآن، فی الجزء الثانی من كتابنا: الصحیح من سیرة النبی الأعظم (صلى الله علیه وآله) حین الحدیث عن اعجاز القرآن، والمحكم والمتشابه(1).


____________



(1) وقد یكون من الطریف أن نذكر هنا قصة لربما تشیر إلى ما تحمله التعابیر المختلفة من فوارق فی المعانی، وإن كان لا یرتبط هذا المثال كثیراً فیما نحن فیه، والقصة هی على ما جاء فی بهج الصباغة ج7 ص 176 كما یلی:


ورد: أن رجلاً قال لهشام القوطی: كم تعد؟ قال: واحد إلى ألف ألف وأكثر. قال: لم أرد هذا، كم تعد من السن؟ قال: اثنین وثلاثین، ست عشرة من أعلا وست عشرة من أسفل. قال: لم أرد هذا، كم لك من السنین؟ قال: والله، ما لی فیها شیء، السنون كلها لله تعالى. قال: یا هذا ما سنك؟ قال: عظم. قال: ابن كم أنت؟ قال: ابن اثنین،


=>













الصفحة 266


وقد لاحظ البعض(1): أنه (علیه السلام) لا یحتج علیهم بالقرآن بصورة عامة، وإنما یهتم بأن یحتج علیهم بأعمال النبی (صلى الله علیه وآله) وسلم فیقول (علیه السلام): «وقد علمتم: أن رسول الله (صلى الله علیه وآله) رجم الزانی، ثم صلى علیه، ثم ورثه أهله. وقتل القاتل، وورث میراثه أهله.وقطع السارق، وجلد الزانی غیر المحصن، ثم قسم علیهما من الفیء، ونكحا المسلمات، فأخذهم رسول الله (صلى الله علیه وآله) بذنوبهم، وأقام حق الله فیهم، ولم یمنعهم سهمهم من الإسلام، ولم یخرج أسماءهم من بین أهله»(2).


كما أنه (علیه السلام) قد احتج علیهم: بأن رسول الله (صلى الله علیه وآله) قد منّ على أهل مكة، فلم یسب نساءهم ولا ذریتهم، وبأن النبی (صلى الله علیه وآله) قد محا كلمة: «رسول الله» من صحیفة الحدیبیة، وبأنه (صلى الله علیه وآله) قد أعطى النصفة لأهل نجران، حیث قال: (ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبین).


وبأنه (صلى الله علیه وآله) قد حكّم سعد بن معاذ فی بنی قریظة..


فاستأمن من «الخوارج» لذلك ثمانیة آلاف(3).


____________



<=


رجل وامرأة. قال: كم أتى علیك؟ قال: لو اتى علیّ شیء لقتلنی. قال: فكیف أقول؟! قال: تقول: كم مضى من عمرك؟!


(1) تاریخ المذاهب الإسلامیة ص 73.


(2) نهج البلاغة [بشرح عبده] الخطبة رقم 123 ومصادر نهج البلاغة ج2 ص 285 عن تاریخ الطبری حوادث سنة 38 مع بعض التفاوت.


(3) راجع: الفتوح لابن أعثم ج4 ص122 ـ 125 والفرق بین الفرق ص 78 ـ 80 والبدایة والنهایة ج7 ص 281 وغیر ذلك كثیر، فراجع كتب التاریخ.













الصفحة 267


وفی روایة أن منادیه (علیه السلام) قد نادى: ألا یدخل علیه (علیه السلام) إلا رجل قد قرأ القرآن.


وبعد أن امتلأت الدار بقراء القرآن دعا بمصحف عظیم، فوضعه بین یدیه، فطفق یصكه بیده، ویقول: أیها المصحف، حدث الناس.


فناداه الناس، فقالوا: یا أمیر المؤمنین، ما تسأل منه، فإنه ورق ومداد..


ثم تذكر الروایة احتجاجه علیهم(1).


وذلك كله یفسر لنا ما روی عن النبی (صلى الله علیه وآله): یخرج قوم من أمتی یقرؤون القرآن، لیس قراءتكم إلى قراءتهم بشیء، یقرؤون القرآن یحسبون أنه لهم، وهو علیهم، لا تجاوز صلاتهم تراقیهم(2).


العناد واللجاج:


لقد تحدثت النصوص التاریخیة عن احتجاجات كثیرة جرت بین «الخوارج» وعلی (علیه السلام) وأصحابه، ولربما ذكروا: أن هذه الاحتجاجات قد استمرت ستة أشهر.. ولا شك فی أن هذه الظاهرة كانت من القوة والظهور بحیث لم تغب عن ذاكرة أی مؤلف أورد روایات خروجهم


____________



(1) راجع: تهذیب تاریخ دمشق ج7 ص 304 وكنز العمال ج11 ص 279 والبدایة والنهایة ج7 ص 280 عن مسند احمد.


(2) كنز العمال ج11 ص 130 و280 عن مسلم، وأبی داود عن علی. وعن عبد الرزاق، وخشیش، وأبی عوانة، ومسلم، وابن أبی عاصم، والبیهقی. وفرائد السمطین ج 1 ص 276 ونظم درر السمطین ص 116 وخصائص الإمام علی للنسائی ص144 وفی هامشه عن سنن البیهقی ج8 ص170 وعن مسند أحمد ج1 ص88 و91 وعن سنن أبی داود، باب قتال «الخوارج».


والبدایة والنهایة ج7 ص 291 وكفایة الطالب ص 176 ونزل الابرار ص 60 والریاض النضرة ج3 ص 224 و225 وروی أیضاً عن مسلم ج2 ص 748.













الصفحة 268


على علی (علیه السلام)، فقد كان البراء بن عازب رسول أمیر المؤمنین (علیه السلام) إلیهم، وقد بقی یدعوهم ثلاثة أیام..


فلم تزل الرسل تختلف إلیهم حتى قتلوا رسوله. فلما رأى ذلك (علیه السلام) نهض فقاتلهم(1).


ویقول النص التاریخی أیضاً: «فوعظهم بكل قول، وبصّرهم بكل وجه، فلم یرجعوا»(2).


«وكاتبهم وراسلهم فلم یرتدعوا»(3).


«وبعث إلیهم علی رضی الله عنه عبد الله بن عباس، فناظرهم، فرجع أكثرهم، وبقی بقیتهم، فقاتلهم علی الخ..»(4).


وقال الزهری: «خاصمت الحروریة علیاً ستة أشهر.. إلى ان قال: فطالت خصومتهم، وخصومة علی بالكوفة»(5).


وقد عبر علی (علیه السلام) عن قوة وكثرة احتجاجه علیهم بقوله: «أنا حجیج المارقین»(6).


وعن احتجاجات ابن عباس وقوتها، وإحساسهم هم بذلك، یقول التلمسانی: «وخرج إلیهم رضی الله عنه بمن معه ورام رجعتهم فأبوا إلا القتال وكان علی أرسل إلیهم عبد الله بن عباس، فاجتمع معهم، واحتج


____________



(1) راجع: بهج الصباغة ج7 ص 190 عن الطبری، وتاریخ بغداد ج1 ص 177 ومروج الذهب ج2 ص 404 و405.


(2) الفخری فی الآداب السلطانیة ص 94.


(3) كشف الغمة ج1 ص 265.


(4) البدایة والنهایة ج7 ص 279.


(5) راجع تهذیب تاریخ دمشق ج7 ص 305 وراجع ص 306 وانساب الاشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص 353.


(6) نهج البلاغة ج1 ص 122، الخطبة رقم72.













الصفحة 269


علیهم بحجج من كتاب الله عز وجل، ومن فعل النبی (صلى الله علیه وآله)، وأبی بكر، وعمر حتى قطعهم. ولم یجدوا جواباً لما قال.


فقال بعضهم لبعض: دعوه عنكم، ولا تجیبوه، فلن تطیقوا مخاصمة ابن عباس، فإنه من القوم الذین قال الله تعالى فیهم: بل هم قوم خصمون»(1).


وقال الشبلنجی وغیره: إنهم بعد أن احتج (علیه السلام) علیهم، وأفحمهم فی حروراء، قال لهم: قوموا، فادخلوا مصركم یرحمكم الله.


قالوا: ندخل، ولكن نرید أن نمكث مدة الأجل الذی بینك وبین القوم ههنا لیحیا المال، ویسمن الكراع.


فانصرف علی رضی الله عنه، وهم كاذبون فیما زعموا قاتلهم الله تعالى(2).


اعتراف «الخوارج»:


إنه لا ریب فی أن علیاً (علیه السلام) قد أفحم «الخوارج»، وأقام الحجة علیهم، فی خطبه وفی مناظراته أكثر من مرة، وفی أكثر من مناسبة. ولا ریب فی أن الحق كان هو الفیصل، وهو الأساس القوی فی رجوع الكثیرین منهم إلى جادة الصواب، وصرفهم عن مواصلة التمرد، أو على الأقل فی إیجاد حالة من التردد لدیهم تمنعهم من مواصلة نهجهم الظالم، الذی لا یعتمد على أساس صحیح، الأمر الذی نتج عنه تأخیر المواجهة فی أكثر من موطن، حتى لقد اعترفوا أنفسهم بهذا الأمر، فقالوا:


____________



(1) الجوهرة فی نسب علی بن أبی طالب وآله ص 108.


(2) نور الأبصار ص 99 وراجع: الكامل لابن الأثیر ج3 ص 238 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 85/86.













الصفحة 270


«.. وقد ردنا بكلامه الحلو فی غیر موطن»(1).


وحلاوة كلامه (علیه السلام) هی فیما یجلّیه لهم من معالم الحق، من موقع الرأفة بهم، وحب الرشد والهدایة لهم، والخوف والخشیة علیهم، من أن تأخذهم العزة بالإثم، نعوذ بالله، وإلیه نلجأ وبه نعتصم من الخذلان، ومن وساوس الشیطان.


تأثیر المناظرات والخطب والمناشدات:


وقد كان لتلك المناظرات والاحتجاجات والخطب تأثیر بالغ فی حقن دماء الألوف منهم، حیث أظهرت لهم خطأهم فی مواقفهم، فرجعوا إلى الحق، أو عرفوا أن ما یستندون إلیه لا یصلح للاستناد.


وقد ذكر الحارثی الإباضی: أنه بعد أن توقف القتال فی صفین انفصلت عنه المحكمة، وهم ما بین أربعة آلاف وستة وعشرین ألفاً(2).


وعن الشماخی: قیل أربعة وعشرون ألفاً(3).


وقد ذكر ابن عبد ربه: أن أمیر المؤمنین (علیه السلام) ناظرهم، فرجع ستة آلاف، ثم ناظرهم ابن عباس فرجع منهم ألفان. وذلك قبل خروجهم إلى النهروان. وقبل تأمیر الراسبی علیهم. وبقی أربعة آلاف..


وكان منهم ألفان فی الكوفة یسرّون أمرهم(4).


____________



(1) مناقب الإمام علی بن أبی طالب (علیه السلام) لابن المغازلی ص 407.


(2) العقود الفضیة ص 38.


(3) العقود الفضیة ص 46.


(4) راجع: العقد الفرید ج2 ص 388 و389.













الصفحة 271


وقد صرحت بعض المصادر برجوع ثمانیة آلاف منهم من دون تفصیل(1).


وذكرت مصادر أخرى رجع ألفین منهم بسبب مناظرات ابن عباس لهم(2).


لكن بعض المصادر أطلقت القول بأن الراجعین من «الخوارج» كانوا أربعة آلاف(3).


وادعى بعضهم أنه قد بقی من الأربعة آلاف ألف وثمان مئة، وقتل منهم ألف وخمس مئة(4).


وعند ابن كثیر: أنه لم یبق منهم إلا ألف أو اقل(5).


وصرح عبد الرزاق بأن الراجعین منهم كانوا عشرین ألفاً(6).


وفصل ابن كثیر فادعى: أن «الخوارج» كانوا ستة عشر ألفاً، أو اثنی عشر ألفاً.. فناظرهم علی (علیه السلام) حتى رجعوا معه إلى الكوفة.


____________



(1) راجع: كشف الغمة ج1 ص 266 والفتوح لابن أعثم ج4 ص 125 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 193 وغیر ذلك..


(2) الجوهرة فی نسب علی (علیه السلام) وآله ص 108 وشذرات الذهب ج1 ص 50 وبهج الصباغة ج7 ص 166 عن كامل المبرد وتذكرة الخواص ص 99 وتلبیس إبلیس ص 93 وانساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص 361 و355 والمناقب للخوارزمی ص 185.


(3) راجع: مناقب الإمام علی (علیه السلام) لابن المغازلی ص 413 وتهذیب تاریخ دمشق ج7 ص 304 والبدایة والنهایة ج7 ص 281 و282 والمصنف لعبد الرزاق ج10 ص 148.


(4) بهج الصباغة ج7 ص 168.


(5) البدایة والنهایة ج 7 ص 289.


(6) المصنف ج10 ص 160.













الصفحة 272


وذلك یوم عید الفطر، أو الأضحى ـ شك الراوی ـ ثم جعلوا یعرّضون له فی الكلام، ویسمعونه شتما..


ثم خرجوا إلى النهروان، فكان هناك ما هو معلوم(1).


وبذلك یتضح: عدم صحة ما ذكره المعتزلی، من أن «الخوارج» لم یرجعوا؛ لأن علیاً حاججهم بالقرآن حیث قال: «ولذلك لم یرجعوا، والتحمت الحرب، وإنما رجع باحتجاجه نفر منهم»(2).


فإن احتجاجه بالقرآن لا یمكن أن یكون هو السبب فی عدم رجوعهم.. وقد عرفنا رجوع الألوف منهم حتى لم یبق سوى أربعة آلاف من أصل ستة وعشرین ألفاً، أو ما یقرب من ذلك، فهل هؤلاء «نفر منهم» على حد تعبیره؟.


خوف «الخوارج» من المناشدات والاحتجاجات:


وقد أصبح «الخوارج» یخشون تأثیر، احتجاجات ومناشدات علی (علیه السلام) لهم، ویحذرون بعضهم بعضاً من التاثر بها. إذ أن ذلك أوجب ردهم عن الحرب أكثر من مرة.


وقد جاء: أن الراسبی الخارجی قال لأصحابه: «القوا الرماح، وسلوا سیوفكم من جفونها، فإنی أخاف أن یناشدوكم كما ناشدوكم یوم حروراء، فترجعوا، فوحشوا برماحهم..» (3).


____________



(1) البدایة والنهایة ج7 ص 282.


(2) شرح نهج البلاغة ج 18 ص 72.


(3) المصنف للصنعانی ج10 ص 148 وفی هامشه عن البیهقی ج8 ص 170 وعن مسلم والبدایة والنهایة ج7 ص 291 والریاض النضرة ج3 ص 225 وكفایة الطالب ص 177 ونزل الأبرار ص 60 عن مسلم ج2 ص 748 و749 ونظم درر السمطین ص 117 لكنه قال: إن ذلك هو قول علی (علیه السلام) وكنز العمال ج11 ص 280 و281 [عن مسلم ج1 ص 343 وعن عبد الرزاق وخشیش، وأبی عوانة، وابن أبی عاصم، والبیهقی] وفرائد السمطین ج1 ص 276..













الصفحة 273


وعن زید بن وهب، قال: خطبنا علی (علیه السلام) بقنطرة الدیرخان، فقال: أن قد ذكر لی بخارجة تخرج من قبل المشرق، وفیهم ذو الثدیة، فقاتلهم.


فقالت الحروریة بعضها لبعض: فردّكم كما یردكم یوم حروراء، فشجر بعضهم بعضاً بالرماح(1).


شذرات من المناظرات والاحتجاجات:


وقد ذكرت الروایات التاریخیة نصوصاً متنوعة لما جرى بین علی (علیه السلام) وأصحابه من جهة، وبین «الخوارج» من الجهة الأخرى، ونحن نورد هنا بعضاً من تلك الاحتجاجات، فنقول:


ورد فی النصوص: أن علیاً (علیه السلام) قد أمر قنبراً، فقال لهم: ما نقمتم على أمیر المؤمنین؟! ألم یعدل فی قسمتكم، ویقسط فی حكمكم، ویرحم مسترحمكم، لم یتخذ مالكم دولاً؟.


ولم یأخذ منكم إلا السهمین اللذین جعلهما الله: سهماً فی الخاصة، وسهماً فی العامة(2).


ویقول نص آخر:


____________



(1) خصائص علی بن أبی طالب (علیه السلام) للنسائی ص 143 وراجع: تاریخ بغداد ج7 ص 237 وج1 ص 159.


(2) مناقب الإمام علی (علیه السلام) لابن المغازلی ص 407.













الصفحة 274


ثم إنهم خرجوا بحروراء، أولئك العصابة من «الخوارج» بضعة عشر ألفاً، فأرسل إلیهم علی ینشدهم الله، فأتوا (فأبوا) علیه. فأتاهم صعصعة بن صوحان وقال:


علام تقاتلون خلیفتكم؟!


قالوا: مخافة الفتنة.


قال: فلا تعجلوا ضلالة العام مخافة فتنة عام قابل.


فرجعوا، وقالوا: نسیر على ما جئنا، فإن قبل علی القضیة قاتلنا على ما قاتلنا یوم صفین. وإن نقضها قاتلنا معه حتى بلغوا النهروان.


فافترقت منهم فرقة، فجعلوا یهدون الناس لیلاً، قال أصحابهم: ویلكم، ما على هذا فارقنا علیاً.


فبلغ علیاً أمرهم، فخطب الناس، فقال: ما ترون؟ نسیر إلى أهل الشام؟ أم نرجع؟! (1).


هل قصّر ابن عباس فی الاحتجاج؟


وعلى كل حال.. فإن «الخوارج» یروون أنهم قد أفحموا ابن عباس، وأنه قد رجع إلیهم. وقبل بمقالتهم.. وسیأتی ذلك إن شاء الله تعالى.. وسنبین أنه كلام مزیف وغیر مقبول..


وبغض النظر عن ذلك، فإننا نجد أنهم یذكرون: أن علیاً (علیه السلام) قد نهى ابن عباس عن مناظرتهم فی غیبته فتسرع، ودخل معهم فی حوار ظهر فیه أنه غیر قادر على رد الحجة بأقوى منها..


فتولى علی (علیه السلام) ذلك..


____________



(1) مجمع الزاوئد ج6 ص238.













الصفحة 275


ولا نرید أن نقول: إن ذلك مكذوب على ابن عباس من الأساس..


بل نحتمل احتمالاً معقولاً: أن یكون رحمه الله، قد فوجئ ببعض مقولاتهم، واضطرب فی إجاباته عنها. ثم تدارك مواقع ضعفه، بما عرفه وسمعه من أمیر المؤمنین (علیه السلام)، الذی أسقط كل ما تعلقوا به من طحلب الأوهام، وأزاح كل ما أثاروه من غبار شبهات واهیة.


بل ذكرت بعض النصوص: أنه (علیه السلام) كان فی بعض مواقف الاحتجاج علیهم، على مقربة من ابن عباس یلقنه ما یقوله لهم، ویلقی إلیه ما یحتج به علیهم.


ونذكر فیما یلی للقارئ الكریم بعض ما یوضح ما قلناه، فنقول:


إن بعض النصوص تذكر: أن علیاً (علیه السلام) نهى ابن عباس عن مجادلتهم، حتى یأتیه. لكن ابن عباس لم یصبر عن جوابهم، فدخل معهم فی نقاش لم یكن موفقاً فیه.


فجاء علی (علیه السلام) وهو یخاصمهم ویخاصمونه، فقال له علی (علیه السلام): ألم أنهك عن كلامهم؟!.


فكلم علی (علیه السلام) ابن الكواء زعیمهم الخ(1).


وحسب نص آخر: أن ابن عباس خاطب «الخوارج» بحضور علی (علیه السلام)، فلما فرغوا من احتجاجهم قال: یا أمیر المؤمنین قد سمعت ما قال القوم، وأنت أولى بالجواب منی.


____________



(1) راجع: نور الأبصار ص 98 و99 والفصول المهمة لابن الصباغ ص 84 و85 والكامل فی التاریخ ص 327 و328.













الصفحة 276


فقال علی (علیه السلام): [لا ترتابن، قد ظفرت بهم، والذی فلق الحبة، وبرأ النسمة](1).


هل هذه الاحتجاجات موضوعة؟!


قال ابن الاسكافی، وغیره..


لما رجع علی (علیه السلام) إلى الكوفة، لم یدخل معه أصحاب البرانس، واعتزلوه، وأتوا حروراء، ونزل بها منهم اثنا عشر ألفاً.


وبعث علی (علیه السلام) بعبد الله بن عباس إلى «الخوارج»، وقال له: لا تعجل إلى جوابهم وخصومتهم حتى آتیك.


فلما لقیهم جعلوا یكلمونه، فلم یصبر حتى سألهم، فقال لهم: كیف نقمتم على الحكمین، وقد قال الله تعالى: (فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن یریدا إصلاحاً یوفق الله بینهما)(2).


فزعموا: أن «الخوارج» قالت: كلما جعل الله حكمه إلى الناس، وأمرهم بالنظر فیه، فهو إلیهم. وما نفذ حكم الله فیه فلیس لهم رده، وعلیهم إمضاؤه، وكذلك علیهم الإمضاء على محاربة أهل البغی.


فقال ابن عباس: وأنتم الذین وادعتم وشككتم دوننا.


وذكروا: أن ابن عباس قال لهم: فإن الله تعالى یقول: (یحكم به ذوا عدل منكم)(3).


____________



(1) مناقب الإمام علی (علیه السلام) لابن المغازلی ص 406 وراجع الفتوح لابن أعثم ج4 ص 122 ولم یذكر جوابه (علیه السلام) لابن عباس وراجع الاحتجاج ج1 ص 99 ـ 100.


(2) سورة النساء الآیة 35.


(3) سورة المائدة، الآیة 95.













الصفحة 277


فقالت «الخوارج»: فعدل عندك عمرو وأبو موسى؟! هذه الآیة بیننا، فإن كان عمرو عدلاً فنحن غیر عدول.


فقال لهم: ابن عباس: فقد قال الله: فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها أرأیتم، إن كانت المرأة یهودیة، ألیس قد دارت حكومة أهلها، وهم غیر عدول(1).


الحجة الدامغة هی حجة علی (علیه السلام):


وقال ابن الإسكافی وغیره: إن علی بن أبی طالب (علیه السلام) خرج إلى «الخوارج»، فأتى فسطاط یزید بن قیس، فدخله، فتوضأ فیه، وصلى ركعتین. ثم خرج حتى انتهى إلیهم، وهم یخاصمون ابن عباس، فقال علی لابن عباس: انته عن كلامهم. ألم أنهك، رحمك الله؟!.


ثم تكلم علی، فحمد الله، وأثنى علیه، ثم قال:


إن هذا مقام من فتح الله فیه،كان أولى بالفتح یوم القیامة. ومن نطق فیه وأوعب، فهو فی الاخرة أعمى وأضل سبیلا.


ثم قال لهم: من زعیمكم؟


قالوا: ابن الكواء.


قال علی: فما أخرجكم من حكمنا؟!


قالوا: حكومتكم یوم صفین.


قال: نشدتكم بالله، أتعلمون أنهم حیث رفعوا المصاحف، فقلتم: نجیبهم إلى كتاب الله. قلت لكم: إنی أعلم بالقوم منكم، إنهم لیسوا بأصحاب دین، ولا قرآن، فإنی قد صحبتهم، وعرفتهم أطفالاً ورجالاً،


____________



(1) راجع: المعیار والموازنة ص 194 ـ 196.













الصفحة 278


فكانوا شر أطفال، وشر رجال. امضوا على حقكم وصدقكم، فإنما رفع القوم لكم هذه المصاحف خدیعة، ووهنا، ومكیدة.


فرددتم علی رأیی، وقلتم: لا بل نقبل منهم.


فقلت لكم: اذكروا قولی، ومعصیتكم إیای، فلما أبیتم إلا الكتاب اشترطت على الحكمین أن یحییا ما أحیا القرآن، وأن یمیتا ما أمات القرآن، فإن حكما بحكم القرآن، فلیس لنا أن نخالف حكم من حكم بما فی الكتاب، وإن أبیا فنحن من حكمهما براء.


فهل قام إلیَّ رجل، فقال: یا علی، إن هذا الأمر أمر الله، فلا تعطه القوم؟


قالوا: لا.


قالوا: فأخبرنا، أتراه عدلاً تحكیم الرجال فی الدماء؟


قال: إنا لسنا الرجال حكّمنا، وإنما حكّمنا القرآن، وهو خط مسطور بین لوحین، لا ینطق حتى یتكلم به الرجال. وأنتم حكمتم أبا موسى، وجئتمونی، وأتیتمونی به مبرنساً. وقلتم: لا نرضى إلا به. ومعاویة حكم عمروا!..


[ثم قال]: وأخبرنی عنك یا ابن الكواء، متى سمی أبو موسى حكماً؟! أحین أرسل؟ أم حین حكم؟


قال: حین حكم.


قال: فقد سار وهو مسلم، وأنت ترجو ان یحكم بما أنزل الله.


قال: نعم.


قال: فلا أرى الضلال فی إرساله، إذ كان عدلاً.












الصفحة 279


قالوا: فخبرنا عن الأجل لم جعلته بیننا وبینهم؟


قال: لیتعلم الجاهل، ویثبّت العالم. ولعل الله أن یصلح فی تلك المدة بین الأمة.


ثم قال علی: أرأیتم، لو أن رسول الله (علیه السلام) أرسل رجلاً مؤمنا یدعو قوماً مشركین إلى كتاب الله، فارتد على عقبه كافرا، كان یضر النبی صلى الله علیه شیئاً؟


قالوا: لا.


قال: فما ذنبی، إن ضل أبو موسى، ولم أرض بحكومته إذ حكم، ولا بقوله إذ قال.


قالوا: أفرأیت كتابك باسمك واسم أبیك، وتركك اسمك الذی سماك الله به بإمرة المؤمنین؟!.


قال علی: على یدی دار مثل هذا الحدیث.


كتب النبی (علیه السلام): هذا كتاب من محمد رسول الله.


وقال أبو سفیان، وسهیل بن عمرو: لا نقر ولا نعرف أنك رسول الله، لقد ظلمناك إذاً إن شهدنا أنك رسول الله، ثم قاتلناك، ولكن اكتب باسمك واسم أبیك.


فقال رسول الله (صلى الله علیه وآله) اكتب من محمد بن عبد الله، فإن ذلك لا یضر نبوتی شیئاً.


فكتبها رسول الله (صلى الله علیه وآله) لآبائهم، وكتبتها أنا لابنائهم.


قالوا: صدقت. ولكن بقیت خصلة: إنا قد علمنا أنك لم ترض بحكمهم حتى شككت، وكتبت فی كتابك: إن جرنی كتاب الله إلیك












الصفحة 280


تبعتك، وإن جرك إلی تبعتنی. تعطی هذا القول وقد أحصا [لعل الصواب: خاضت] خیلنا فی دمائهم؟! وما فعلت هذا حتى شككت.


فقال علی: نبئنی أنت ومن معك أولى بأن لا تشكّوا فی دینكم أم المهاجرون والأنصار؟


أم أنا أولى بالشك، أم معاویة؟


قال ابن الكواء: النبی (علیه السلام) أولى بالیقین منك.. وأهل الشام خیر من مشركی قریش. والمهاجرون والأنصار خیر منا.


قال: أفرأیت الله حین یقول لرسوله: (قل: فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما اتبعه إن كنتم صادقین).


أشك النبی (علیه السلام) فیما هو علیه حین یقول هذا؟ أم أعطاهم إنصافاً؟!


فقال ابن الكواء: خصمتنا ورب الكعبة، وأنت أعلم منا بما صنعت.


فقال علی (علیه السلام): ادخلوا مصركم رحمكم الله.


فلم یبرح علی (علیه السلام) حتى تفرقوا، ودخلوا معه، وقلبوا أترستهم(1).


نص آخر:


وقد روى ابن المغازلی عن:


____________



(1) راجع: المعیار والموازنة ص 198 ـ 201.













الصفحة 281


عبیدة بن بشر الخثعمی عن أبیه قال: خرج علیّ بن أبی طالب (علیه السلام) یرید «الخوارج» إذ أقبل رجل یركض حتى انتهى إلى أمیر المؤمنین علی (علیه السلام) فقال: یا أمیر المؤمنین البشرى!


قال: هات ما بشراك؟


قال: قد عبر القوم النهروان لما بلغهم عنك،؟ وقد منحك الله أكتافهم.


فقال: الله، لأنت رأیتهم قد عبروا؟


فقال: والله، لأنا رأیتهم حین عبروا.


فحلّفه ثلاث مرات فی كل ذلك یحلف له.


فقال له أمیر المؤمنین: كذبت والذی فلق الحبة وبرأ النسمة ما عبروا النهروان، ولن یبلغوا الأثلاث ولا قصر بوران، حتى یقتلهم الله على یدیّ، لا ینجو منهم تمام عشرة، ولا یقتل منا عشرة: عهداً معهوداً، وقدراً مقدوراً، وقضاء مقضیاً، وقد خاب من افترى.


ثم أقبل أیضاً آخر، حتى جاءه ثلاثة، كلهم یقولون مقالة الأول، ویقول لهم مثل ذلك.


ثم ركب، فأجال فی ظهر بغلته، ونهض الشاب، وأجال فی ظهر فرسه، وهو یقول فی نفسه، والله لأنطلقن مع علی، فان كان القوم قد عبروا لأكونن من أشد الناس على علی (علیه السلام)، فلما انتهى إلى النهروان أصابوا القوم قد كسروا جفون سیوفهم، وعرقبوا دوابهم، وجثوا على ركبهم، وحكموا بحكم رجل واحد، واستقبلوا علیاً بصدور الرماح، فقال علی (علیه السلام): حكم الله أنتظر فیكم.












الصفحة 282


فنزل إلیه الشاب فقال: یا أمیر المؤمنین إنی قد شككت فی قتال القوم، فاغفر ذلك لی.


فقال علی: بل یغفر الله الذنوب، فاستغفره.


ثم نادى علی (علیه السلام) قنبر، فقال: یا قنبر، ناد القوم ما نقمتم على أمیر المؤمنین؟ ألم یعدل فی قسمتكم، ویقسط فی حكمكم، ویرحم مسترحمكم؟ لم یتخذ مالكم دولاً، ولم یأخذ منكم إلا السهمین اللذین جعلهما الله: سهماً فی الخاصة وسهماً فی العامة؟


فقالت «الخوارج»: یا قنبر، إن مولاك رجل جدل؟، ورجل خصم، وقد قال الله تعالى: بل هم قوم خصمون، وهو منهم، وقد ردّنا بكلامه الحلو فی غیر موطن، وجعلوا یقولون: والله لا نرجع حتى یحكم الله بیننا وهو خیر الحاكمین.


قال علی (علیه السلام): یا ابن عباس انهض إلى القوم فادعهم بمثل الذی دعاهم به قنبر، فانی أرجو أن یجیبوك.


فقال ابن عباس: یا أمیر المؤمنین ألقی علیّ حلتی، وألبس علیّ سلاحی؟ فإنی أخاف على نفسی.


قال: بلى، فانهض إلیهم فی حلتك، فمن أیّ یومیك من الموت تفرّ؟ یوم لم یقدر أو یوم قد قدر؟


قال: فنهض ابن عباس إلیهم، وناداهم بمثل الذی أمره به.


فقالت طائفة: والله لا نجیبه حتى یحكم الله بیننا وهو خیر الحاكمین.


وقال أصحاب الحجج فی أنفسهم منهم: والله لنجیبنه، ولنخصمنّه، ولنكفرنّه وصاحبه لا ینكر ذلك.












الصفحة 283


فقالوا: ننقم علیه خصالاً كلها موبقة، وإما مكفرة، أما أولهن فإنه محا اسمه من أمیر المؤمنین، حیث كتب إلى معاویة، فإن لم یكن أمیر المؤمنین فانه أمیر الكافرین، لأنه لیس بینهما منزلة، ونحن مؤمنون، ولیس نرضى أن یكون علینا أمیراً.


ونقمنا علیه أن قسم علینا یوم البصرة ما حوى العسكر، وقد سفك الدماء، ومنعنا النساء والذراری، فلعمری إن كان حلّ هذا فما حرم هذا؟


ونقمنا علیه یوم صفین أنه أحب الحیاة وركن إلى الدنیا جبنا؛ منعنا أن نقاتل معه وأن ننصره، حیث رفعت لنا المصاحف؛ فهلا ثبت وحرّض على قتال القوم، وضرب بسیفه حتى یرجع إلى أمر الله، ونقاتلهم، والله یقول: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ویكون الدین لله).


وننقم علیه أنه حكم الحكمین فحكما بجور لزمه وزره.


ونقمنا علیه أنه ولى الحكم غیره، وهو عندنا من أحكم الناس.


ونقمنا علیه أنه شك فی نفسه حین أمر الحكمین أن ینظرا فی كتاب الله: فإن كان معاویة أولى بالأمر ولوه. فإن شك فی نفسه فنحن أعظم فیه شكاً.


ونقمنا علیه أنه كان وصیاً فضیّع الوصیة.


ونقمنا علیك یا بن عباس حیث جئت ترفل إلینا فی حلة حسنة تدعونا إلیه.


فقال ابن عباس: یا أمیر المؤمنین قد سمعت ما قال القوم، وأنت أولى بالجواب منی! فقال علی (علیه السلام): لاترتابن ظفرت بهم والذی فلق الحبة وبرأ النسمة نادهم:












الصفحة 284


ألستم ترضون بما أنبؤكم به من كتاب الله، لا تجهلون به، وسنة رسول الله (صلى الله علیه وآله) لا تنكرونه؟


قالوا: اللهم بلى.


قال: أبدأ بما بدأتم به، علیّ مدار الأمر، أنا كاتب رسول الله (صلى الله علیه وآله)، حیث كتب بسم الله الرحمن الرحیم: من محمد رسول الله (صلى الله علیه وآله) إلى سهیل بن عمرو، وصخر بن حرب ومن قبلهما من المشركین عهداً إلى مدة.


فكتب المشركون: إنا لو علمنا أنك رسول الله ما قاتلناك، فاكتب إلینا باسمك اللهم، فإنه الذی نعرف، واكتب إلینا ابن عبد الله.


فأمرنی، فمحوت: رسول الله، وكتبت: ابن عبد الله.


وكتبت إلى معاویة: من علیّ أمیر المؤمنین إلى معاویة بن أبی سفیان، وعمرو بن العاص، ومن قبلهما من الناكثین عهداً إلى مدة.


فكتبوا: إنا لو علمنا أنك أمیر المؤمنین ما قاتلناك، فاكتب إلینا من علی بن أبی طالب نجبك.


فمحوت: أمیر المؤمنین وكتبت: ابن أبی طالب، كما محا رسول الله (صلى الله علیه وآله) وكما كتب، فإن كنتم تلغون بسم الله الرحمن الرحیم أن محاها، وتلغون رسول الله أن محاها، ولا تثبتونه. فالغونی ولا تثبتونی، وإن أثبتموه، فإن الله تعالى قال: ما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا، وقال: لقد كان لكم فی رسول الله أسوة حسنة، فاستننت برسول الله (صلى الله علیه وآله).


قالوا: صدقت هذه بحجتنا هذه.












الصفحة 285


قال: وأما قولكم إنی قسمت بینكم ما حوى العسكر یوم البصرة، فأحللت الدماء ومنعتكم النساء والذریة، فإنی مننت على أهل البصرة لما افتتحتها وهم یدعون الإسلام، كما منّ رسول الله (صلى الله علیه وآله) على أهل مكة وهم مشركون لما افتتحها، وكانوا أولادهم، ولدوا على الفطرة قبل الفرقة بدینهم، وإن عدوا علینا أخذناهم بذنوبهم، فلم ناخذ صغیراً بذنب كبیر، وقد قال الله تعالى فی كتابه: ومن یغلل یأت بما غلّ یوم القیامة. وقال رسول الله (صلى الله علیه وآله): لو أن رجلاً غل عقالاً من الحرب لأتى الله یوم القیامة وهو مغلول به، حتى یؤدیه.


وكانت أم المؤمنین أثقل من عقال، فلو غللتها، وقسمت سوى ذلك، فإنه غلول.


ولو قسمتها لكم، وهی أمكم لاستحل منها ما حرم الله فأیكم كان یأخذ أم المؤمنین فی سهمه وهی أمه؟


قالوا: لا أحد، وهذه بحجتنا هذه.


قال: وأما قولكم: إنی حكمّت الحكمین، فقد عرفتم كراهتی لهما إلا أن تكذبوا وقولی لكم: ولُّوها رجلاً من قریش.


فإن قریش لا تخدع، فأبیتم إلا أن ولیتموها من ولیتم.


فإن قلتم: سكت حیث فعلنا ولم تنكر.. فإنما جعل الله الإقرار على النساء فی بیوتهن. ولم یجعله على الرجال فی بیوتهم.


فإن كذبتم وقلتم: أنت حكمت ورضیت، فإن الله قد حكم فی دینه الرجال وهو أحكم الحاكمین، فقال: (یا أیها الذین آمنوا لا تقتلوا الصید وأنتم حرم، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم، یحكم به ذوا عدل منكم) وقال: (وإن خفتم شقاق بینهما فابعثوا












الصفحة 286


حكماً من أهله وحكماً من أهلها)، فإنما على الانسان الاجتهاد فی استصلاح الحكمین، فإن عدلا كان العدل فیما أریاه أولى، وإن لم یعدلا فیه وجارا، كان الوزر علیهما، (ولا تزر وازرة وزر أخرى) قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.


قال: وأما قولكم: انی حكمت، وأنا أولى الناس بالحكم، فقد حكم رسول الله (صلى الله علیه وآله) سعد بن معاذ یوم الیهود، فحكم بقتل مقاتلیهم و سبی ذراریهم، وجعل أموالهم للمهاجرین دون الأنصار.


فقالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.


قال: وأما قولكم: إنی قلت للحكمین: انظروا فی كتاب الله، فإن كان معاویة أحق بها منی فأثبتوه، وإن كنت أولى بها فأثبتونی.


فلو أن الحكمین اتقیا الله ونظرا فی القرآن، عرفا أنی كنت من السابقین بإسلامی قبل معاویة، و معاویة مشرك، وعرفت أنهم إذا نظروا فی كتاب الله وجدونی یجب لی على معاویة الاستغفار لأنی سبقته بالإیمان، ولا یجب لمعاویة علیّ الاستغفار، ووجدونی یجب لی على معاویة خمس ما غنمتم، لأن الله تبارك وتعالى أمر بذلك إذ یقول: (واعلموا أنما غنمتم من شیء فأن لله خمسه) الآیة.


فإذا حكما بما أنزل الله أثبتونی ولو قلت: احكموا وأثبتونی، ابى معاویة. لكنی أظهرت لهم النصفة حتى رضی، كما أن رسول الله (صلى الله علیه وآله) لو قال: أجعل لعنة الله علیكم، أبوا أن یباهلوا، ولكن جعل لعنة الله على الكاذبین، فهم الكاذبون، واللعنة علیهم، ولكن أظهر لهم النّصفة، فقبلوا.












الصفحة 287


قالوا: صدقت هذه بحجتنا هذه.


قال: وأما قولكم: إن كان معاویة أهدى منی فأثبتوه. فإننی قد عرفت أنهم لا یجدونه أهدى منی، وقد قال تعالى لنبیه: (قل فأتوا بكتاب من عند الله هو أهدى منهما أتبعه)، فقد عرفتم أنهم لا یأتون بكتاب من عند الله هو أهدى من القرآن، فكذلك عرفت أنهم لا یجدون معاویة أهدى منی.


وأما قولكم: إن الحكمین كانا رجلی سوء فلم حكمتهما؟ فإنهما لو حكما بالعدل لدخلا فیما نحن فیه، وخرجا من سوئهما، كما أن أهل الكتاب لو حكموا بما أمر الله حیث یقول: (ولیحكم أهل الانجیل بما أنزل الله فیه) خرجوا من كفرهم إلى دیننا.


قالوا: صدقت وهذه بحجتنا هذه.


قال: وأما قولكم: إنی كنت وصیا فضیعت الوصیة، فإن الله تعالى قال فی كتابه: (ولله على الناس حج البیت من استطاع إلیه سبیلاً). ولو ترك الحج من استطاع إلیه سبیلا كفر، ولم یكن البیت لیكفر، ولو تركه الناس لا یأتونه، ولكن كان یكفر من كان یستطیع إلیه السبیل فلا یأتیه، وكذلك أنا: إن أكن وصیاً فإنكم كفرتم بی، لا أنا كفرت بكم بما تركتمونی.


قالوا: صدقت هذه بحجّتنا هذه.


قال: وأما قولكم: إن ابن عباس جاء یرفل فی حلة حسنة یدعوكم إلى ما یدعوكم إلیه، فقد رأیت أحسن منها على رسول الله (صلى الله علیه وآله) یوم حرب.












الصفحة 288


فرجع الیه من «الخوارج» أكثر من أربعة آلاف، وثبت على قباله أربعة آلاف. وأقبلوا یحكِّمون.


فقال علی (علیه السلام): حكم الله أنتظر فیكم. یا هؤلاء؟ أیُّكم قتل عبدالله بن خبّاب بن الأرت وزوجته وابنته؟ یظهر لی أقتله بهم، وأنصرف، عهدا إلى مدة، حكم الله أنتظر فیكم.


فنادوا: كلنا قتل ابن خبّاب وزوجته وابنته، وأشرك فی دمائهم.


فناداهم أمیر المؤمنین (علیه السلام): أظهروا لی كتائب وشافهونی بذلك، فإنی أكره أن یقر به بعضكم فی الضوضاء ولا یقر بعض، ولا أعرف ذلك فی الضوضاء ولا أستحل قتل من لم یقر بقتل من أقر. لكم الأمان حتى ترجعوا إلى مراكزكم كما كنتم.


ففعلوا، وجعلوا كلما جاء كتیبة سألهم عن ذلك، فإذا أقروا عزلهم ذات الیمین، حتى أتى على آخرهم.


ثم قال (علیه السلام): ارجعوا إلى مراكزكم. فلما رجعوا ناداهم ثلاث مرات: رجعتم كما كنتم قبل الأمان من صفوفكم؟


فنادوا كلهم: نعم!


فالتفت إلى الناس فقال (علیه السلام): الله أكبر! الله أكبر! والله لو أقرّ بقتلهم أهل الدنیا وأقدر على قتلهم لقتلتهم، شدُّوا علیهم، فأنا أوّل من شدّ علیهم. وعزل بسیف رسول الله (صلى الله علیه وآله) ثلاث مرات، كل ذلك یسوِّیه على ركبتیه من اعوجاجه ثم شدَ الناس معه، فقتلوهم، فلم ینج منهم تمام عشرة.


فقال (علیه السلام): آتونی بذی الثُدیة، فإنه فی القوم، فقلب الناس القتلى فلم یقدروا علیه، فأتی. فأُخبر بذلك، فقال (علیه السلام): الله












الصفحة 289


أكبر، والله ما كذبت، ولا كذبت، وإنه لفی القوم.


ثم قال: ائتونی بالبغلة فانّها هادیة مهدیة، فركبها ثم انطلق حتى وقف على قلیب، ثم قال: قلّبوا.


فقلّبوا سبعة من القتلى، فوجدوه ثامنهم، فقال: الله أكبر! هذا ذو الثُدیة الذی خبَّرنی رسول الله (صلى الله علیه وآله) أنه یقتل مع شر خیلٍ.


ثم قال (علیه السلام): تفرقوا. فلم یقاتل معه الذین كانوا اعتزلوا، كانوا وقوفا فی عسكره على حدة (1).


جولة جدیدة من الاحتجاجات:


قال الزهراوی: خاصمت الحروریة علیاً ستة أشهر, فقالوا! شككت فی أمر الله الذی ولاك, وحكمت عدوك , ووهنت فی الجهاد.


____________



(1) مناقب الإمام علی (علیه السلام) لابن المغازلی ص406 ـ 414 وقد قال المعلق على الكتاب ما یلی:


احتجاج علی (علیه السلام) مع «الخوارج» وهكذا احتجاج ابن عباس لهم مشهورة رواها النسائی فی الخصائص ص 48 إلى 50 والمحب الطبری فی الریاض النضرة ج2 ص 240 مقتصرا على ثلاث حجج منها.


وأخرجه الهیثمی فی مجمع الزوائد ج6 ص236 من طریق أبی یعلى قال: ورجاله ثقات وفی ص 237 من طریق أبی یعلى أیضاً وقال: رجاله رجال الصحیح وفی ص238 و239 من طریق أبی یعلى والبزار وقال: رجال أبی یعلى ثقات ومن طریق الطبرانی وأحمد وقال: رجالهم رجال الصحیح. وهكذا ذكره أبو العباس المبرد فی كتابه الكامل ص942 ـ 945 وخرّجه عنه الشارح المعتزلی فی شرح النهج ج1 ص204 وأخرجه من أعلام الإمامیة أبو منصور الطبرسی فی الإحتجاج ص 99 ـ 100 وألفاظه أشبه بما رواه المؤلف فی الصلب وأخرجه أبو جعفر السروی فی مناقب آل أبی طالب ج3 ص188 ـ 189 بغیر هذا اللفظ.














الصفحة 290


إلى أن قال: فطالت خصومتهم وخصومة علی بالكوفة , ثم أصبحوا یوماً وقد زالوا برایاتهم , وهم خمسة آلاف علیهم ابن الكواء , فقطع بقتالهم. وأرسل علی إلیهم عبد الله بن عباس، وصعصعة بن صوحان , من عبد القیس , فناشدوهم ودعوهم إلى الجماعة, فأبوا علیهم.


فلما رأى علی ذلك أرسل إلیهم: إنا ندعوكم إلى مدة نتدارس فیها كتاب الله، لعلنا نصطلح فمادّوه بضعة عشر لیلة.


فقال علی (علیه السلام): إبعثوا منكم اثنی عشر نقیباً ونبعث منا مثلهم، ثم ابرزوا بنا إلى مكان ـ سمّاه ـ یجتمع الناس فیه، ویقوم فیه خطباؤنا بحججنا.


ففعلوا، ورجعوا إلى الناس.


فقام علی فتشهد، وقال:


أما بعد, فإنی لم أكن أحرصكم على هذه القضیة, وعلى التحكیم, ولكنكم وهنتم فی القتال, وتفرقتم علی, وحاكمتمونی بالقرآن, فخشیت إن أبیت الذی عرض علی القوم من كتاب الله أن یتأولوا كتاب الله علی (ألم تر إلى الذین أوتوا نصیباً من الكتاب یدعون إلى كتاب الله لیحكم بینهم ثم یتولى فریق منهم وهم معرضون. ذلك بأنهم قالوا: لن تمسنا النار إلا أیاماً معدودات، وغرهم فی دینهم ما كانوا یفترون).


وخشیت أن یتأولوا علی قول الله: (یا أیها الذین آمنوا لا تقتلوا الصید وأنتم حرمٌ، ومن قتله منكم متعمداً فجزاء مثل ما قتل من النعم، یحكم به ذوا عدل منكم هدیاً بالغ الكعبة).












الصفحة 291


وخشیت أن یتأولوا علی قول الله فی الرجل وامرأته: (وإن خفتم شقاق بینهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها، إن یریدا إصلاحاً یوفق الله بینهما).


فیقولوا لی إن أبیت أن أحكم فیها: قد دعاك القوم إلى كتاب الله لیحكم بینهم، قد فرض الله فی الكتاب حكمین فی أصغر من هذا الأمر، الذی فیه سفك الدماء، وقطع الأرحام، وانتهاك المحارم، فتخاصمونی من كتاب الله، بما ترون أن لكم الحجة علی، فأجبت حین دعیت إلى الحكم بكتاب الله، وخشیت وهنكم وتفرقكم.


ثم قامت خطباء علی فنحوا فی النحو الذی احتج به علی، حتى إذا فرغوا قام خطباء الحروریة فقالوا: إنكم دعوتمونا إلى كتاب الله فأجبناكم، ودعوتمونا إلى العمل به حتى قتلت علیه القتلى یوم الجمل ویوم صفین، وقطعت فیه الأرحام، ثم شككت فی أمرك وحكمت عدوك، فنحن على أمرك الذی تركت، وأنت الیوم على غیره إلا أن تتوب وتشهد على نفسك بالضلالة فیما سلف.


فلما فرغوا من قولهم قال علی: «أما أن أشهد على نفسی بالضلالة فمعاذ الله أن أكون ارتبت منذ أسلمت، أو ضللت منذ اهتدیت، بل بنا هداكم الله وبنا استنقذكم الله من الضلالة، ولكن حكمت منا حكماً ومنهم حكماً، وأخذت علیهما أن یحكما بكتاب الله وسنة نبیه والسنة الجامعة غیر المفرقة، فإذا فعلا كنت ولی هذا الأمر، وإن خالفا لم یكن لهما علی حكم».


فكثر قول علی وقولهم، واختصامهم، ثم تفرقوا فنبذ بعضهم إلى بعض، فأرسل علی إلیهم عبد الله بن عباس وصعصعة، فقال لهم












الصفحة 292


صعصعة: اسمعوا منی أعظكم بكلمات، فإن الخصومة قد طالت منذ هذه الأشهر، یا قوم أذكركم الله والإسلام أن تكونوا شیناً لأهل القرآن، فإنكم والله قد فتحتم أمراً لو دخلت فیه هذه الأمة بأسرها ما بلغت غوره أبداً.


قالوا: یا صعصعة إنا نخشى إن أطعناك الیوم أن نبین عاماً قابلاً.


قال: یا قوم إنی أذكركم الله والإسلام أن تعجلوا فتنة العام خشیة فتنة عام قابل.


قال ابن الكواء ـ وهو رئیسهم الذی دعاهم إلى البدعة التی ركبوها ـ: یا قوم ألستم تعلمون أنی دعوتكم إلى هذا الأمر وأنا رأسكم الیوم فیه؟!


قالوا: بلى.


قال: فأنا أول من أطاع. فإن هذا واعظ شفیق على الدین.


فقام معه قریب من خمسمائة، ودخلوا فی جماعة أمر علی. وبقی قریب خمسة آلاف، فقاتلهم وقاتلوه، حتى أوصلهم إلى آبارهم.


ثم اعتزل منهم أهل النخیلة، وهم قریب من ألف رجل. فأقرهم، على أن یأخذوا أعطیتهم، لا یزیدون علیها من كل ما مر بهم، ولا یثیرون أحداً، ولا یقطعون سبیلاً.


وقال علی: ذروهم ما تركوكم.


فلم یزالوا على ذلك حتى قتل علی رضی الله عنه(1).


____________



(1) تهذیب تاریخ دمشق ج7 ص305 ـ 307 وراجع أنساب الأشراف [بتحقیق المحمودی] ج2 ص 353 و 354.













الصفحة 293


ابن الكواء، وعلی (علیه السلام):


لما جاء علی (علیه السلام) إلى أهل حروراء، قال لهم: یا هؤلاء، من زعیمكم؟


قالوا: ابن الكواء.


قال: فلیبرز إلی.


فخرج إلیه ابن الكواء، فقال له علی: یا ابن الكوّاء، ما أخرجكم علینا بعد رضاكم بالحكمین، ومقامكم بالكوفة؟!


قال: قاتلت بنا عدواً لا نشك فی جهاده، فزعمت: أن قتلانا فی الجنة وقتلاهم فی النار، فبینما نحن كذلك، إذ أرسلت منافقاً وحكمت كافراً. وكان مما [من] شكك فی أمر الله أن قلت للقوم حین دعوتهم: «كتاب الله بینی وبینكم، فإن قضى علی بایعتكم، وإن قضى علیكم بایعتمونی»، فلولا شكك لم تفعل هذا والحق فی یدك.


فقال علی: یا ابن الكواء إنما الجواب بعد الفراغ، أفرغت فأجیبك؟


قال: نعم.


قال علی: أما قتالك معی عدواً لا نشك فی جهاده فصدقت، ولو شككت فیهم لم أقاتلهم.


وأما قتلانا وقتلاهم، فقد قال الله فی ذلك ما یستغنی به عن قولی. وأما إرسالی المنافق، وتحكیمی الكافر، فأنت أرسلت أبا موسى مبرنساً، ومعاویة حكم عمرواً، أتیت بأبی موسى مبرنساً، فقلت: لانرضى إلا أبا موسى، فهلا قام إلیّ رجل منكم، فقال: یا علی، لا نعطی هذه الدنیة فإنها ضلالة؟












الصفحة 294


وأما قولی لمعاویة: إن جرنی إلیك كتاب الله تبعتك، وإن جرك إلی تبعتنی، زعمت أنی لم أعط ذلك إلا من شك، فقد علمت: أن أوثق ما فی یدك هذا الأمر، فحدثنی ـ ویحك ـ عن الیهودی والنصرانی، ومشركی العرب، أهم أقرب إلى كتاب الله أم معاویة وأهل الشام؟.


قال: بل معاویة وأهل الشام أقرب.


قال علی: أفرسول الله (صلى الله علیه وآله) كان أوثق بما فی یدیه من كتاب الله أو أنا؟!.


قال: بل رسول الله.


قال: أفرأیت الله تبارك وتعالى حین یقول: قل فأتوا بكتاب من عند الله، هو أهدى منهما أتبعه إن كنتم صادقین. أما كان رسول الله یعلم: أنه لا یؤتى بكتاب هو أهدى مما فی یدیه؟.


قال: بلى.


قال: فلم أعطى رسول الله القوم ما أعطاهم؟


قال: إنصافاً وحجة.


قال: فإنی أعطیت القوم ما أعطاهم رسول الله.


قال ابن الكواء: فانی أخطأت، هذه واحدة، زدنی.


قال علی: فما أعظم ما نقمتم علیّ.


قال: تحكیم الحكمین، نظرنا فی أمرنا فوجدنا تحكیمهما شكاً وتبذیراً.


قال علی: فمتى سمی أبو موسى حكماً، حین أرسل؟ أو حین حكم؟












الصفحة 295


قال: حین أرسل.


قال: ألیس قد سار وهو مسلم وأنت ترجو أن یحكم بما أنزل الله؟


قال: نعم.


قال علی: فلا أرى الضلال فی إرساله.


فقال ابن الكواء: سمی حكماً حین حكم.


قال: نعم إذاً، فإرساله كان عدلاً، أرأیت یابن الكواء لو أن رسول الله بعث مؤمناً إلى قوم مشركین، یدعوهم إلى كتاب الله، فارتد على عقبه كافراً، كان یضرّ نبی الله شیئاً؟


قال: لا.


قال علی: فما ذنبی أن كان أبو موسى ضل؟ هل رضیت حكومته حین حكم، أو قوله إذ قال؟!.


قال ابن الكواء: لا ولكنك جعلت مسلماً وكافراً یحكمان فی كتاب الله.


قال علی: ویلك یا ابن الكواء، هل بعث عمرواً غیر معاویة؟ وكیف أحكمه، وحكمه على ضرب عنقی؟ إنما رضی به صاحبه كما رضیت أنت بصاحبك، وقد یجتمع المؤمن والكافر یحكمان فی أمر الله. أرأیت لو أن رجلاً مؤمناً تزوج یهودیة أو نصرانیة، فخافا شقاق بینهما، ففزع الناس إلى الله، وفی كتابه: (فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها)، فجاء رجل من الیهود، أو رجل من النصارى،












الصفحة 296


ورجل من المسلمین، اللذین یجوز لهما أن یحكما فی كتاب الله، فحكما.


قال ابن الكواء: وهذه أیضاً، أمهلنا حتى ننظر.


فانصرف عنهم علی.


قال صعصعة بن صوحان: یا أمیر المؤمنین، إئذن لی فی كلام القوم.


قال: نعم، ما لم تبسط یداً.


قال: فنادى صعصعة ابن الكواء، فخرج إلیه، فقال: أنشدكم الله یا معشر الخارجین. ألا تكونوا عاراً على من یغزو لغیره، وألا تخرجوا بأرض تسمُّوا بها بعد الیوم، ولا تستعجلوا ضلال العام خشیة ضلال عام قابل.


فقال له ابن الكواء: إن صاحبك لقینا بأمر قولك فیه صغیر، فامسك(1).


قال ابن حیان: «كان مع علی جمعیة یسیرة، إنما جاء على ان یردهم بالكلام، وقد كانت «الخوارج» قریباً من خمسة آلاف» فقتلهم علی (علیه السلام)»(2).


وقبل أن نختم هذا الفصل نورد نصاً لمحاورة یقال: إنها جرت بین نافع بن الأزرق الخارجی والإمام الباقر (علیه السلام)..


والحقیقة هی أنها إنما جرت بین نافع مولى ابن عمر، لا ابن الأزرق كما سیتضح، والمحاورة هی التالیة..


____________



(1) العقد الفرید ج4 ص 351 ـ 353.


(2) راجع: الثقات ج2 ص 296.













الصفحة 297


هل حاور الإمام الباقر نافع بن الأزرق؟!


قال الشیخ المفید: «جاءت الأخبار: أن نافع بن الأزرق جاء إلى محمد بن علی (علیهما السلام)، فجلس بین یدیه، یسأله عن مسائل فی الحلال والحرام.


فقال له أبو جعفر (علیه السلام) فی عرض كلامه: قل لهذه المارقة، بما استحللتم فراق أمیر المؤمنین (علیه السلام)، وقد سفكتم دماءكم بین یدیه فی طاعته، والقربة إلى الله بنصرته؟! فسیقولون لك: إنه حكم فی دین الله، فقل لهم: قد حكم الله تعالى فی شریعة نبیه (صلى الله علیه وآله) رجلین من خلقه، فقال: فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها، إن یریدا إصلاحاً یوفق الله بینهما، وحكم رسول الله (صلى الله علیه وآله) سعد بن معاذ فی بنی قریظة: فحكم فیهم بما أمضاه الله.


أو ما علمتم: أن أمیر المؤمنین (علیه السلام) إنما أمر الحكمین أن یحكما بالقرآن، ولا یتعدیاه، واشترط ردّ ما خالف القرآن من أحكام الرجال.


وقال حین قالوا له: حكمت على نفسك من حكم علیك، فقال: ما حكمت مخلوقاً، وإنما حكمت كتاب الله.


فأین تجد المارقة تضلیل من أمر بالحكم بالقرآن واشتراط رد ما خالفه، لولا ارتكابهم فی تدعیهم البهتان؟


فقال نافع بن الأزرق: هذا والله كلام ما قرّ بسمعی قط، ولا خطر منی ببال، وهو الحق إن شاء الله)(1).


____________



(1) الإرشاد للمفید ص265، والاحتجاج ج2 ص57/58.













الصفحة 298


وذكر فی تفسیر القمی مناظرة بین نافع بن الأزرق ـ ووصفه بأنه مولى عمر بن الخطاب ـ مع أبی جعفر الباقر(علیه السلام)، فی السنة التی حج فیها هشام بن عبد الملك. وفی هذه الروایة: أن نافعاً كان بصحبة هشام هذا، وقد تواطأ معه على أن یسأل الإمام عن مسائل بهدف أن یخجله ـ فكانت النتیجة هی إقرار نافع بأنهم (علیهم السلام) أوصیاء رسول الله وخلفاؤه(1).


وروی: أن نافع بن الأزرق سأل أبا جعفر (علیه السلام)، قال: اخبرنی عن الله عز وجل متى كان؟


قال: متى لم یكن حتى أخبرك الخ(2).


وهذه الفقرة موجودة فی الروایة السابقة، كما فی الكافی والاحتجاج.


وفی ذیل الروایة التی فی الكافی ما یدل على أن نافعاً مولى ابن عمر كان من «الخوارج»، فقد جاء فیها: أن الإمام الباقر (علیه السلام) قال له:


ما تقول فی أصحاب النهروان، فإن قلت: إن أمیر المؤمنین قتلهم بحق فقد ارتددت.


[أی ارتددت عن مذهب الخوارج الذی تقول به] وإن قلت: إنه قتلهم باطلاً فقد كفرت.


____________



(1) تفسیر القمی ج2 ص 284، تفسیر سورة الزخرف، والبحار ج 10 ص 161 و162 والروایة فی الاحتجاج ج2 ص 95 ولیس فیها كلمة ابن الأزرق. وكذا فی الكافی ج8 ص 120 وقال فی مرآة العقول ج26 ص 513 ـ 515: هو نافع بن سرجس، مولى عبد الله بن عمر، كان ذمیاً.. وكان ناصبیاً، خبیثاً، معانداً لأهل البیت (علیهم السلام). یظهر من أخبارنا أنه كان یمیل إلى رأی الخوارج، كما یدل علیه هذا الخبر..


(2) الاحتجاج ج2 ص54.













الصفحة 299


قال: فولى من عنده، وهو یقول: أنت أعلم الناس حقاً حقاً الخ(1).


ونقول:


أولاً: إن مولى ابن عمر بن الخطاب هو نافع بن سرجس، لا نافع بن الأزرق..


ثانیاً: إن ابن الأزرق قد قتل فی واقعة الدولاب فی سنة 65 هجریة(2)، أی فی وقت (كان عمر الإمام الباقر (علیه الصلاة والسلام)، لا یزید على سبع سنوات. وهو فی كنف أبیه الإمام السجاد صلوات الله وسلامه علیه.. فلا یعقل أن تكون تلك الحادثة قد جرت له معه (علیه الصلاة والسلام).


وأما نافع بن سرجس مولى عبد الله بن عمر، فقد توفی فی سنة 117 هجریة(3).


وقد كان ناصبیاً خبیثاً یمیل إلى رأی «الخوارج»(4).


ومعنى ذلك هو أن الروایات المتقدمة إنما تتحدث عن هذا الثانی دون الأول، لكن الرواة قد خلطوا بینهما..


ولعل شهرة ابن الأزرق بمذهب «الخوارج» جعلت أذهان الرواة، تنصرف إلیه، فیقحمون كلمة ابن الأزرق بصورة عفویة.. أو استنادا إلى هذا الارتكاز العفوی إن صح التعبیر.


____________



(1) الكافی ج8 ص 122.


(2) الكامل فی التاریخ ج4 ص 195.


(3) البحار ج10 ص 161/162.


(4) الكافی ج8 هامش ص 120.













الصفحة 300


ثالثاً: إن كلمة ابن الأزرق وكلمة مولى عمر بن الخطاب قد وردتا فی روایة واحدة، وصفاً لنافع واحد. كما تقدم فی روایة القمی.. وهذا یؤید ما ذكرناه بصورة ظاهرة وقویة أیضاً.


رابعاً: إن ما ذكرته الروایة من قول ابن الأزرق أخیراً: «هذا والله كلام ما قر بسمعی قط، ولا خطر منی ببال». یثیر الدهشة، فإن هذا الكلام قد سمعه «الخوارج» فی أول ظهورهم وبدایة بغیهم على أمیر المؤمنین (علیه السلام)، وقد اعترفوا به، ورجع منهم الكثیرون عن غیهم بسببه. ولا یعقل أن یخفى ذلك على مثل ابن الأزرق الزعیم فیهم، والذی تقوم نحلته على هذا الأساس بالذات وهذا شاهد آخر على أن المقصود لیس هو نافع بن الأزرق، بل مولى ابن عمر كما قلنا.












الصفحة 301